الاثنين، 31 يناير 2022

"واخفض لهما جناح الذل من الرحمة"

سُئل الشيخ إبراهيم السكران:

(ياشيخ ، أمي وأبي يطلبان مني طلبات كثيرة، وأنا أدرس، وهم لم يراعوا ذلك.
أحيانا أرد عليهم بأني سأذاكر.
ما الحكم؟ وكيف أتصرف؟)

فأجاب الشيخ:
(بالله عليك لا تفوتنك مصاريع باب الجنة..
أنت الآن على ضربة مِعوَل من منجمِ "مثاقيل الحسنات" فلا تُلقِ ذراعك حين تلألأت أطراف الجواهر بين يديك.. 
أتعلم أن فئامًا من الشباب لا ينعمون بالنعمة التي أنت الآن في أعطافها؟ قبض الله أرواح والديهم..
فكلما لفحتهم الذكريات تقطَّعت نياط قلوبهم يريدون لحظةً يروون فيها نفوسهم من بِرِّهما ويبلّون ظمأ الإحسان للوالدين..

كم من شابٍ صلى على والديه تتقصف أضلاعه الآن يتمنى تلك الساعة التي يحمل فيها أكياساً لهما من السوق..
أو يفتح باب السيارة لهما ليقلّهما لبعض شأنهما..
أو يدخل عليهما بحفيدهما يتنازعان حمله والسرور يبرق في وجهيهما.. ويحاميان عنه ويد الطفل تعبث فيما حوله..
أو يكون هو وأشقاؤه خلف الوالد وهو يدخل وليمة أو مناسبة..
وكم من رجل يرى الآن في غرفة والدته الراحلة بقايا قنينات دوائها التي كان ينظم أقراصها لها..
يعصره الحنين عصرًا على تلك اللحظات.. وما بيده شيء.. وربما وارى دمعةّ حرى تتلامع فيها لوعات الفقد والغياب.. ولا شيء أشجى على أشداء الرجال من دمعة خفية على ذكرى والديهم..

لي قريب لم يجد شيئًا يبلّ كبده إلا أن يأخذ "شيلة" والدته الراحلة كل ليلة وينام عليها ويستنشق رائحتها..
بالله لو قيل لمثل هذا كم تدفع لتعود والدتك؟ فسيقول الدنيا كلها.

أما ترى ربنا في كتابه يطلب منا أن نتذلل له سبحانه.. ومع ذلك قال عن الوالدين {وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ}.

بالله عليك أتعرف شيئًا في كتاب الله شنّع عليه القرآن أكثر من الشرك؟
انظر كيف يذكر الله حق الوالدين بعد حق الله بالتوحيد، وكيف يذكر العقوق بعد الشرك:
قال الله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً}، وقال سبحانه: {قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً}، وقال سبحانه: {وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً}.
ما أكثر ما يلتمس المرء من رجل ذي خبرة أن يوصيه بشيء ينفعه.. والله جل وعلا يتحبب لعباده بلفظ الوصية فيقول: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ}.
ويكرر سبحانه الطلب بنفس اللغة "الوصية" فيقول: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً..}.
إنه الله.. الخالق سبحانه بعظمته.. "يوصينا" بوالدينا.. ماذا بقي من هول الحق لهما بعد ذلك؟!
ألم يلفت انتباهك أن الله إذا مدح أحدًا ببر الوالدين ذكر النفوس المتجبرة؟
لماذا؟! 
لأنها هي معدن العقوق.. قال الله عن يحيى: {وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا}..
وقال سبحانه عن عيسى: {وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا}.
وأما قولك غفر الله لك "يطلبون مني طلبات كثيرة" فالجواب: ارفع يديك شاكرًا حامدًا لله أنها "كثيرة"..
سابق الريح في تحقيق مطالبهما وسترى الخيرات تفتح لك.. وستشاهد من أبواب التوفيق ما لا يقع منك بحسبان..
أتعلم أن فئامًا من الناس يستثقل والداه أن يسألا أحدًا شيئًا.. ويخفيان حاجياتهم عن أبنائهم.. والأبناء يتسقّطون أخبار أمنيات والديهم من أصدقائهما وأصفيائهما ليفرحونهما بها.. وأنت قد أنعم الله عليك بوالدين "يكرمانك" بأن يطلبا منك.. و"يتفضلان" عليك بأن يسألاك.. وأنت تتضايق من النعمة! 
أرأيت بالله عليك رجلاً تهطل عليه من الله العطايا.. فيمد للناس صحائف الشكوى من تتابعها؟!
أتستشير كيف تتخلص من ضغط مطالب والديك.. ؟!
سألتك بالله هل أنت جادّ؟!
يا الله.. كم هو سؤالٌ قاسٍ عفا الله عنك).

الأربعاء، 26 يناير 2022

كلما خفيت الطاعة زادت بركتها

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله..
أما بعد:

هاتفني شيخي قبل بضعة أشهر يعرض علي الصحبة في سفر قصير، بادرته الموافقة، وكان من عادتنا في كل رحلة؛ أن نجرد كتابًا علميًّا، وأن يكون حجم الكتاب مناسبا لطول مدة السفر..
أخبرني شيخنا بالكتاب الذي سيُقرأ لأحضره معي وانطلقنا مع باقي الصحبة..

شرعنا في الطريق بالقراءة على الشيخ، وأخذ رضي الله عنه بالشرح والتعليق، أخذ يغوص في مسائل العلم ودقائقه، ولست أدري بمَ أصف ذلكم الشرح!! ويكأنّه جبل نُفِخ علمًا!! فاللهم بارك عليه وأسبغ عليه نِعمك وعفوك وثباتك..

وصلنا بحمد الله إلى غايتنا، وحططنا رحلنا فيما نبغِ من أرض الله، والتقينا بثلة من أهل العلم والفضل..

وفي طريق العودة كان المقرر أن نكمل ما بدأناه من قراءة، ولكنْ -بقدر الله- حُجِبْنا عن الذي كنا فيه، لم نستطع أن نقرأ حرفًا واحدًا!!
أحاطت بنا الصوارف من كل جانب!!

وفي آخر طريق العودة؛ سكت شيخي هنيّةً وعالج عبرته، ثم تنهّد قائلًا:
"يا إخوة، خذوها موعظة..
كلما خفيت الطاعة؛ "زادت بركتها"، لا تفصحوا عن أعمالكم، أخبرت أحد الإخوة بقراءتنا في هذه الرحلة، وها أنتم ترون أنّا قد حُجبنا عن القراءة الآن"..

فيالله ما أعظم هذا الموقف، وما أشد سياطه على القلب..
ويكأنّ قراءتنا قد نُقلت من ديوان السر إلى ديوان العلانية؛ كما قال الإمام الجليل سفيان الثوري: "إن العبد ليعمل العمل في السر، فلا يزال به الشيطان حتى يتحدث به، فينتقل من ديوان السر إلى ديوان العلانية".[تعطير الأنفاس].

وليس هذا أمرًا عارضًا، أو هو حدثٌ وقع بمحض الصدفة؛ فقد وقعت لي قصة شبيهة؛ تنبهت لها بعدما أخذت مني موعظة الشيخ مأخذًا عظيمًا، والحاصل أنني قبل فترة كان الشيخ قد رسم لي برنامجًا (فرديًّا) أسير عليه، وبفضل الله أنجزت منه ما أنجزت، -وبقدر الله- أخبرت أحد الإخوة عنه في حين غفلة مني متوشحًا بلبوس التحفيز، فوجدت بعد تلك الكليمات ثقلًا عجيبًا في برنامجي، وفقدتُّ بركةً كنت قد لمست أثرها قبل تلك الكليمات، والله المستعان.

وإن مما يحيي القلب، ويحرّك العزائم؛ كثرة مطالعة سير المُنعم عليهم من سلف هذه الأمة، والاعتبار بحالهم..
فهذا الجبل الأشم، الوَرِع الزاهد: إبراهيم النخعي، تلميذ إمام أهل الزهد (ابن مسعودٍ -رضي الله عنه-) يقول: "كانوا يكرهون أن يظهروا صالح ما يُسرّون".
ومما قاله عابد الحرمين الإمام الفضيل بن عياض: "خير العلم والعمل ما خفي عن الناس".
ومن الأحرف النورانية للإمام الجليل بشر الحافي: "اكتم حسناتك كما تكتم سيئاتك". [تهذيب الحلية].
ومما سطره التاريخ عن الصديق الثاني، إمام أهل السنة والجماعة، الحبر البحر أبي عبد الله أحمد بن حنبل؛ ما جاء في [المناقب] عن المروذي قال: "كنت مع أبي عبد الله نحوًا من أربعة أشهر بالعسكر ولا يدع قيام الليل وقراءة النهار، فما علمتُ بختمة ختمها، وكان يُسرُّ ذلك".
فنِعم القوم هم، يُقتدى بهم، ويُهتدى بهديهم، صحّت نياتُهم؛ فطابت حياتهم، وسَبقوا ولم يُسبقوا -عليهم رحمة رب العالمين-..
بل تأمل معي هذه الحادثة العجيبة للإمام الجليل سفيان بن عيينة إذ يقول: "أصابني ذات يوم رقة فبكيت، فقلت في نفسي: لو كان بعض أصحابنا لرقَّ معي، ثم غفوت، فأتاني آتٍ في منامي، فرفسني، وقال: يا سفيان، خذ أجرك ممن أحببت أن يراك". [صفة الصفوة].

وإن مما يحسن الإشارة إليه، والتنبيه عليه، أن بعض طلبة العلم يخلط بين مسالك العلم الفردية والجماعية؛ فيظهر ما حقه الإخفاء، مبديًا لأقرانه ما يحفظ وما يقرأ؛ تارة بلبوس التحفيز، وأخرى بلبوس التحدث بالنعمة..

ولا يعزب عن العاقل أن للعلم أركانًا متعددة:
(القراءة، والحفظ، والنقاش، والسؤال، والبحث، والمدارسة، والتلخيص، والتأليف، والتعليم)، وحَق بعضها الإخفاء وحق آخرها الإظهار "اضطرارا"..
فالحفظ والقراءة والتلخيص؛ من عبوديات الخفاء التي لا تُفصَح إلا لمن هو معك في طريق الطلب؛ كشيخك (وصحبتك؛ إن كان من العلم الذي يؤخذ على الشيوخ).
بخلاف البحث والمدارسة والنقاش التي من جملة العبادات الجماعية..
وقد يضاف "البحث" إلى القسم الأول في بعض الأحيان، وأما التأليف والتعليم فهي "زكاة" ما سبق.

بل إن إظهار هذه العبوديات الجماعية ليس على سبيل الإطلاق، فكونها عبادة ظاهرة شيء، وإخبار العالَمين عنها بالتقاط الصور ونشرها شيء آخر!!

في الحقيقة؛ لا شيء يبعث الكدر ويكبس الغم على نفسي مثل أن أرى فاضلًا قد انسلّت كفّه إلى هاتفه أثناء بحثه وقراءته أو مدارسته مع إخوته، وأخذ ينقل عبادته من ديوان السر إلى ديوان العلانية..
قد منّ الله عليه بمجلس مدارسةٍ للعلم فأخذ يلتقط الالتقاطات ويعلّق: "في مدارسة لكتاب كذا - ما أجمل مجالس المدارسة"!
يكون خاليا بربّه في عبودية العلم وأخذ يقرأ ويطالع والكتب منثورة بين يديه ثم انسلّت يده إلى هاتفه ليُطلع غيره على عبادته تحت لباس التحفيز!
ويكأنّ التحفيز محصور بلبوس التصوير!!
أفيكون إبداء أعمالنا سبيلًا لتحفيز الآخرين!!

دعني أذكر لك موقفًا يبيّن لك إمكانية الحث على الخير والتحفيز دون الحاجة إلى إظهار الأعمال الخفيّة.
أذكر أن أحد الفضلاء قد نشر صورةً له وهو يقرأ كتابًا وقد أظهر قَدْرًا من مكتبته في تلك الصورة، ثم علّق عليها قائلًا: "عصر الصيف غنيمة للإنجاز".
بعد أيام قلائل رأيت فاضلًا غيره قد التقط صورةً من تطبيق أوقات الصلاة عقب صلاة العصر، وعلّق على طول وقت العصر والقدر المتبقي على المغيب؛ بنقل عزيز للإمام ابن الجوزي -عليه رحمة الله- في الحرص على اغتنام الوقت واستغلاله، فتأمل أخي القارئ صنيع الرجلين، اتّفقا في الهدف، واختلفا في الوسيلة.

هذا وإنني محسنٌ الظن بأنه لا يوجد من صالحي أمتنا من يأخذ التقاطات غيره وينسبها إلى نفسه أو ينقلها دون عزوها إليهم ونيّته مشوبةٌ بالسمعة عياذًا بالله.

ولعلي أختم بهذه الموعظة التي تصف لك حال سلف الأمة مع تطهير قلوبهم ودفع ظن غيرهم ما ليس فيهم.

روى الإمام مسلم في صحيحه عن حصين بن عبدالرحمن أنه قال: "كنت عند سعيد بن جبير، فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انْقضَّ البارحة؟ قلت (أي حصين): أنا، ثم قلت: أمَا إِني لم أكن في صلاة، ولكني لُدغت... إلى آخر الخبر".
فانظر كيف دفع عن نفسه ما ليس فيها حينما قال: "أمَا إني لم أكن في صلاة".
حتى لا يظن من حوله أنه كان مستيقظًا لقيام الليل.

ختاما..
أيها الأفاضل.. أيتها الفاضلات..
أخلصوا تتخلّصوا..
فالعلم مع الإخلاص هو خلاص النفس من الشوائب، والتزيّل بها عن المعايب..
والعبد بلا إخلاص كابن سبيلٍ يحمل في سفره ما يثقله ولا ينتفع به، كمن يحمل جرابًا قد ملئ رملًا، لا هو يسمنه ولا يجد به غنىً من جوع..

اللهم أوصلنا إلى منازل المخلصين في معرفتك، واجعلنا من عبادك الذين شابوا العمل بنور الإخلاص، واستقوا من عين الحكمة، وركبوا سفينة الفطنة، وأقلعوا بريح اليقين، ولججوا في بحر النجاة، ورسوا بشط الإخلاص، يا رؤوف يا رحيم.

• من المراجع المفيدة في هذا الباب: كتاب تعطير الأنفاس من حديث الإخلاص للشيخ سيّد عفّاني ألبسه الرحمن لباس الصحة والعافية.

عبدالله بن سليمان، عشية الأربعاء
٢٣ جمادى الآخرة ١٤٤٣ هـ